لطالما مثلت المحيطات التحدي المعرفي الأكبر الذي يقف أمامه العلماء في حيرة، فهي عالم محكوم بثنائية الغموض والرهبة، وتظل معارف البشرية تجاهه شحيحة رغم التطور الهائل، ففي كل مرة يطفو فيها تساؤل علمي أو تحدث ظاهرة طارئة، يتكشف للعالم حجم ما نجهله عن هذا الغلاف المائي الذي يطوق كوكبنا. لكن، وفي محاولة لفك هذه الشفرات المعقدة، تأتي التحركات العلمية الحديثة لتسد جزءاً من هذه الفجوة، وكان آخرها ما شهدناه في السادس عشر من نوفمبر 2025، بإطلاق وكالة “ناسا” للقمر الصناعي “سينتينيل-6 بي”، ليواصل مسيرة دامت عقوداً في مراقبة هذا العالم الأزرق من الفضاء.
خارطة العمالقة المائية وأسرار القاع
تُشكل المحيطات الجزء الأعظم من غلافنا المائي، إذ تغطي قرابة 71% من سطح الأرض وتحتوي على 97% من مياهها، ومع ذلك، يؤكد علماء المحيطات أن نسبة ما تم استكشافه لا تتجاوز 5% فقط، بينما لا تزال ملايين الأنواع من المخلوقات البحرية مجهولة تماماً. وتتوزع هذه المياه على خمسة محيطات رئيسية، يتصدرها المحيط الهادئ كأكبر مسطح مائي بمساحة تناهز 165 مليون كيلومتر مربع، محتوياً على أعمق نقطة بحرية عرفها الإنسان وهي “خندق ماريانا” بعمق يتجاوز 11 ألف متر بالقرب من الفلبين.
ويليه في الترتيب المحيط الأطلسي، الذي تبلغ مساحته نحو 82 مليون كيلومتر مربع وتكمن أعمق نقاطه في وحدة بورتوريكو، ثم المحيط الهندي الذي يتميز بعمق وحدة جاوة. أما المحيط المتجمد الشمالي، فيحيط بالقطب الشمالي بجليد دائم ويسجل أدنى درجات حرارة على الكوكب، بينما يطوق المحيط الجنوبي القارة القطبية الجنوبية، حيث تتجمد مياهه معظم أيام السنة وتنعزل عن التأثيرات المدارية.
من السونار البدائي إلى دقة السنتيمترات
تاريخياً، كان الاعتقاد السائد أن قاع المحيطات عبارة عن أراضٍ مسطحة، إلا أن مسوحات “السونار” في خمسينيات القرن الماضي قلبت الموازين، كاشفة عن تضاريس وعرة وسلاسل جبلية وبراكين تفوق في ضخامتها ما هو موجود على اليابسة. ورغم أن الجيولوجيين أدركوا وجود سلاسل جبلية وسط المحيط منذ السبعينيات، إلا أن التفسير الدقيق لطبغرافيتها ظل غامضاً لفترات طويلة. وفي يوليو 1996، أحدثت البحرية الأميركية نقلة نوعية عبر قمر صناعي تمكن من رسم خرائط واضحة لمعالم أحواض المحيط، مما مهد الطريق لفهم أعمق لأرضية البحار.
واستكمالاً لهذا الإرث التقني، جاء إطلاق “سينتينيل-6 بي” ليعزز سجلاً طويلاً من قياسات ارتفاع المحيطات بدأ منذ عام 1992. وتتعاون “ناسا” في هذه المهمة مع وكالة الفضاء الأوروبية ومنظمات دولية أخرى للحفاظ على سلسلة من الأقمار الصناعية في المدار نفسه، بهدف قياس ارتفاع المحيطات بدقة متناهية تصل إلى مستوى السنتيمتر كل عشرة أيام.
عين تقنية راصدة للتغيرات المناخية
يحمل القمر الجديد حزمة من الأدوات المتطورة، أبرزها مقياس الارتفاع الراداري الذي يرسل نبضات نحو سطح الماء لتحديد المسافة بدقة، مدعوماً بمقياس إشعاع الميكروويف المتقدم لتصحيح تأخيرات الإشارة الناتجة عن بخار الماء. وتعمل هذه المنظومة المتكاملة على حساب ارتفاع سطح البحر، وهو مؤشر حيوي لمناخ الأرض، فالمياه تتمدد كلما ارتفعت حرارتها، مما يجعل تغيرات منسوب البحر مرآة تعكس درجات حرارة المحيطات وكيفية تخزينها للحرارة.
وتشير البيانات إلى أن المحيطات تختزن أكثر من 90% من الحرارة المحبسة بواسطة الأرض، مما يساهم في ثلث الارتفاع الملحوظ في مستوى سطح البحر عالمياً، بينما يعود الباقي لذوبان الأنهار الجليدية. وقد سجل العلماء ارتفاعاً طويل الأمد في مستوى سطح البحر يزيد عن 10 سنتيمترات منذ أوائل التسعينيات. ومن هنا تبرز أهمية بيانات “سينتينيل-6 بي” التي ستعمل كنظام إنذار مبكر لظواهر مناخية واسعة النطاق مثل “النينيو”، مما يتيح للحكومات والمجتمعات التخطيط المسبق وحماية البنية التحتية الساحلية.
إن دمج هذه التقنيات الحديثة مع الجهود البحثية المستمرة يمثل بارقة أمل لفك شفرات هذا العالم الغامض، فبينما لا تزال أعماق المحيطات تحتفظ بالجزء الأكبر من أسرارها وتحدياتها، فإن استمرار المراقبة الدقيقة من الفضاء حتى ثلاثينيات هذا القرن سيمكن البشرية من فهم أفضل لتحولات كوكبنا المائي، مما يجعلنا أقرب خطوة نحو استيعاب المجهول الذي يحيط بنا.
