بين ألغاز الموت القديمة واكتشافات “أبوصير” الحديثة.. أسرار الفراعنة لا تنتهي

تظل الحضارة المصرية القديمة عصية على الفهم الكامل رغم مرور آلاف السنين، فبينما يعتقد العالم أنه اقترب من فك طلاسمها، تبرز ألغاز جديدة وتُفتح أبواب كانت موصدة لقرون. لا تقتصر الحيرة على أسباب وفاة ملوك عظام أو أماكن دفنهم المجهولة، بل تمتد لتشمل اكتشافات معمارية حديثة تُعيد تشكيل فهمنا للهندسة القديمة، مما يؤكد أن أرض النيل ما زالت تحتفظ بالكثير من الأسرار في باطنها.

جدل حول نهاية “الملك الذهبي”

على الرغم من الشهرة الواسعة التي يتمتع بها الملك توت عنخ آمون، إلا أن وفاته في سن مبكرة ما زالت لغزاً يحير العلماء. وقد تباينت الفرضيات بشكل كبير؛ ففي عام 2013، استندت تحليلات فريق بحثي بريطاني إلى صور أشعة سينية ومقطعية للكشف عن تعرض الملك لكسور في الساق وأضرار في الأضلاع، مما رجح وفاته إثر حادث اصطدام عربة حربية. ولم تبتعد “ناشيونال جيوغرافيك” عن فرضية الحوادث العنيفة، مشيرة إلى احتمالية تعرضه لركلة حصان أو حتى هجوم من فرس النهر.

في المقابل، يتبنى البروفيسور ألبرت زينك، رئيس المعهد الإيطالي للمومياوات، وجهة نظر مغايرة تستبعد حادث العربة، مستنداً إلى آلاف عمليات المسح الضوئي وتحليلات الحمض النووي التي أرجعت الوفاة إلى ضعف بنيوي في جسد الملك ناتج عن زواج الأقارب بين والديه، مما جعله عرضة للأمراض الوراثية القاتلة. كما أثيرت فرضيات أخرى تتعلق باختفاء بعض أضلاعه، حيث يُعتقد أنها سُرقت خلال الحرب العالمية الثانية على يد لصوص طمعاً في خرز ثمين.

الغموض يحيط بنفرتيتي والإسكندر

وفي سياق الألغاز الملكية، يبرز اختفاء الملكة نفرتيتي كأحد أعقد الملفات في علم المصريات. فبعد عام 1336 قبل الميلاد، انقطعت أخبارها تماماً واختفى أي أثر لمومياء أو قبر لها. وتذهب بعض النظريات التاريخية إلى أنها ربما حكمت كوصية على العرش أو تنكرت في هيئة رجل باسم “سمنخ كا رع”، لكن هذه الفرضيات تفتقر إلى أدلة مادية ملموسة. وقد أحيا وزير الآثار المصري عام 2015 الآمال بإمكانية العثور على غرف سرية داخل مقبرة توت عنخ آمون قد تؤدي إلى سرداب الملكة المفقودة، وهو ما قد يكشف عما إذا كانت قد قضت نحبها بشكل طبيعي أو تعرضت للاغتيال.

وعلى صعيد آخر، لا يزال موقع قبر الإسكندر الأكبر مجهولاً رغم عظمة إمبراطوريته. تشير الوثائق التاريخية إلى رغبته في أن يُلقى بجسده في نهر الفرات، إلا أن قادته خالفوا وصيته ونقلوه إلى مصر. وتتحدث الروايات عن دفنه في ممفيس ثم نقله إلى الإسكندرية، حيث يُعتقد أن قبره تعرض للتخريب والاندثار عبر الزمن، ليصبح مكانه الحالي في طي النسيان.

صرخة الألم الأبدية

ومن بين المومياوات الصامتة، تبرز مومياء “الرجل المجهول إي” التي اكتشفت عام 1886، والتي يبدو صاحبها وكأنه يصرخ من شدة الألم. خلافاً للعادة المتبعة بفتح فم الموتى طقسياً، يبدو أن هذا الرجل مات في ظروف قاسية، حيث ترجح التحليلات أنه الأمير “بنتوير” الذي دبر مؤامرة لقتل والده رمسيس الثالث. الطريقة التي دُفن بها، ملفوفاً بجلد الماعز الذي كان يعتبر نجساً، وعدم وجود علامات مميزة لقبره، تشير إلى عقاب قاسٍ يهدف لحرمانه من الحياة الآخرة، وقد عززت تحليلات عام 2008 هذه الفرضية، مرجحة تعرضه للقتل أو الدفن حياً.

غرف سرية تعيد كتابة تاريخ الهرم

وبعيداً عن الغموض الذي يكتنف الموتى، حققت البعثات الأثرية الحديثة اختراقاً مذهلاً في منطقة “أبوصير”، حيث تم اكتشاف غرف تخزين مفقودة داخل هرم الملك “ساحورع” الذي يعود تاريخه لـ 4400 عام. ورغم أن هذا الهرم يخضع لأعمال ترميم منذ عام 2019، إلا أن فريقاً مصرياً ألمانياً نجح مؤخراً في تأكيد ما كان يُعتقد سابقاً أنه مجرد ممرات مليئة بالركام.

كان الباحثون في عام 1836 قد توقعوا وجود هذه الممرات، لكنها ظلت غير مستكشفة حتى تمكن الفريق الحالي من إثبات وجود ثمانية مخازن مخفية. ولإتمام هذا الإنجاز، استخدم العلماء تقنية مسح ليزر ثلاثي الأبعاد متطورة (LiDAR) لرسم خرائط دقيقة للممرات الضيقة والغرف الداخلية، مما سمح بتكوين سجل دائم لجهود الاستكشاف وتحديث البيانات في الوقت الفعلي. ورغم الضرر الكبير الذي لحق بسقف وأرضيات هذه المخازن، إلا أن بقايا الجدران الأصلية لا تزال صامدة. ويُعد هذا الاكتشاف خطوة محورية قد تُحدث ثورة في فهم التطور التاريخي لبناء الأهرامات، حيث يسعى الفريق حالياً لترميم هذه الغرف لتكون شاهداً جديداً على براعة الهندسة المصرية القديمة.

Related Post